أخبار
بعد قمة إيطاليا – أفريقيا… لم يعد “الحق على الطليان”
كثيرا ما يبرر الزعماء الأفارقة فشلهم في تنمية بلدانهم بوضع اللوم على القوى الاستعمارية السابقة. وهي بضاعة رائجة تجد طريقها إلى شعوب القارة لاعتبارات نفسية وتاريخية، إلا أن قمة إيطاليا – أفريقيا الأخيرة نزعت عنهم هذه التبريرات، ما يضعهم أمام اختبار حقيقي للتغيير.
تونس – انتهت قمة “إيطاليا – أفريقيا… جسر للنمو المشترك”، لكن لا يبدو أن تداعياتها ستنتهي قريبا، باعتبارها مُرشحة لإفراز المزيد من الجدل في علاقة بالتوازنات الجيوسياسية على الصعيدين الإقليمي والدولي التي بدأت تتشكل بقواعد جديدة مختلفة عن تلك التي سبقتها المُثقلة بإرث الماضي الاستعماري.
ويبدو أن أوراق وملفات تلك القمة التي اختتمت أعمالها يوم 29 يناير 2024 في روما، سواء تلك التي تم تداولها في العلن، أو تلك التي خضعت لمداولات سرية، سترسم إلى حد بعيد ملامح المرحلة المقبلة بمختلف أبعادها السياسية والاقتصادية، والأمنية والعسكرية، وذلك بعد انكفاء الدور الفرنسي في أفريقيا.
وحضر تلك القمة التي دارت أعمالها داخل مجلس الشيوخ الإيطالي، رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، ورئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي موسى فقيه، ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، والرئيس الدوري للاتحاد الأفريقي غزالي عثماني.
كما شارك فيها أيضا الرئيس التونسي قيس سعيد، والسنغالي ماكي سال، والكونغولي فيليكس تشيسيكيدي، والإيريتري أسياس أفورقي، والغاني نانا أدو دانكوا أكوفو، والكيني وليام روتو، والموريتاني محمد ولد الغزواني، والموزامبيقي فيليب نيوسي، والزمبي هاكيندي هيشيليما.
وحضرها كذلك رؤساء المؤسسات الأوروبية، بينهم رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال، ورئيسة البرلمان روبيرتا ميتسولا، بالإضافة إلى رئيس الحكومة المغربية عزيز أخنوش، ورئيس الحكومة الليبية بغرب البلاد، عبدالحميد الدبيبة، بينما اكتفت دول أخرى، منها الجزائر وتشاد ومصر بتمثيلها على مستوى وزاري.
وناقشت القمة جملة من ملفات التعاون بين إيطاليا والدول الأفريقية في المجال الاقتصادي والبنية الأساسية، إلى جانب القضايا التي تهم الأمن الغذائي وأمن الطاقة، وقضايا المناخ، والملف الحارق الذي يتعلق بالهجرة غير الشرعية الذي يؤرق إيطاليا، بحيث لن يكون من الصائب لاحقا القول إن “الحق على الطليان”.
ولكن لماذا الآن تم ّاستحضار هذا المثل المنتشر كثيرا في دول المنطقة العربية، وخاصة منها لبنان وسوريا وفلسطين وكذلك الأردن، والقول إنه لم يعد صائب أو لا يستقيم؟،هل يعود ذلك إلى إعلان رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، رسميا عن إطلاق خطة “ماتي ” للتنمية في أفريقيا، أم لأسباب أخرى؟
وقبل الإجابة عن هذه الأسئلة، لابد من التوقف قليلا أمام هذا المثل الذي عادة ما يلجأ إليه البعض للتهرب من تحمل مسؤولية خطأ ما، وتحميل المسؤولية لطرف لآخر بعيد، ولا يقدر على الدفاع عن نفسه، حيث اختلفت الروايات حول أصل هذا المقولة التي تحولت إلى مثل شعبي.
وأبرز هذه الروايات تقول إن معنى كلمة “طليان” ليس المقصود بها الإيطاليين، ذلك أن المقصود بـ”الطليان” هو جمع “طلي” أي الحمل أو الخروف الصغير، وقصة المثل تقول إن أحد أصحاب قطيع من الخراف قام بتعليق أجراس في رقاب الطليان في قطيعه حتى لا تخرج عن القطيع وتتيه، وكلف راعيا بأخذها إلى المرعى.
وفي أحد الأيام هجم ذئب على القطيع وأكل أحد الحملان، بينما كان الراعي نائما، ولم يجد الراعي مبررا مقنعا للدفاع عن نفسه أمام صاحب القطيع الذي عاتبه، فقال إن السبب هو “الأجراس المعلقة في رقاب الطليان، لأن صوتها لفت نظر الذئاب”.
وهناك رواية أخرى تقول إنه عندما انهارت القوات الإيطالية في ليبيا أمام القوات البريطانية خلال الحرب العالمية الثانية وتمكن الإنجليز من أسر حوالي 38 ألف جندي إيطالي، قال الألمان ومناصروهم اليابانيون حين خسروا الحرب “كل الحق على الطليان”.
وأما الرواية الثالثة فهي قريبة من الثانية، وتقول إن قصة المثل تعود إلى فترة الحرب الإيطالية – العثمانية، حيث كانت السفن الحربية العثمانية المتمركزة قبالة السواحل اللبنانية تقطع طرق الإمداد عن السفن الإيطالية التي تنطلق من إيطاليا الى ليبيا، عندها هدد ضابط إيطالي العثمانيين بقصفهم في صورة عدم انسحابهم من المياه اللبنانية.
وعندما رفض العثمانيون هذا التهديد، نفذ الضابط الإيطالي تهديده، وقصف السفن العثمانية، لكن عددا من القذائف سقط وسط العاصمة اللبنانية بيروت، عندها ذهب أعيان بيروت يشتكون هذا الفعل الإيطالي لدى الحاكم العثماني لبيروت، الذي فاجأهم قائلا “الحق على الطليان”، ليُصبح هذا الرد مثلا دارجا منذ ذلك الوقت.
وبغض النظر عن مدى صحة هذه الرواية أو تلك، فإن استحضار هذا المثل الآن يعود بالأساس، إلى أن قادة الدول الأفريقية الذين عادة ما يتنصلون من مسؤولية تردي الأوضاع في بلدانهم، ويلقون باللوم على أطراف أخرى إقليمية ودولية، لن يكون بوسعهم بعد انتهاء قمة “إيطاليا – أفريقيا” استخدام مقولة “الحق على الطليان”.
ففي هذه القمة، أطلقت إيطاليا رسميا خطة “ماتي” للتنمية في أفريقيا، ورصدت لها مبلغا أوليا بقيمة 5.5 مليار يورو (حوالي 5.95 مليار دولار)، بما في ذلك الضمانات العامة للمشاريع المتعلقة بالاستثمارات في مختلف القطاعات في غالبية الدول الأفريقية، وخاصة منها تلك المصدرة للمهاجرين.
وأصبحت “خطة ماتي” خلال الأسابيع القليلة الماضية التي سبقت عقد قمة “إيطاليا – أفريقيا” محورية بشكل متزايد في سياسات وكلمات رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، التي كثيرا ما رددت أن خطة “ماتي” تعكس رغبة إيطاليا في المساهمة في خلق نموذج قادر على التعاون مع الدول الأفريقية، وهي تهدف إلى تقديم بديل جدي لظاهرة الهجرة من خلال العمل والتدريب والفرص في بلدان الأصل.
وتتضمن هذه الخطة خمسة مجالات رئيسية وهي الزراعة والتعليم والصحة والطاقة والماء، وذلك بهدف تمكين إيطاليا من الآليات التي تجعلها جسرا بين أوروبا وأفريقيا، بحيث تقوم أفريقيا بتزويد الدول الأوروبية بإمدادات جديدة لموارد الطاقة من مصادر متجددة، بينما تتكفل أوروبا بتوفير الاستثمارات اللازمة.
وتحمل المرحلة الأولى من خطة “ماتي” التي بدأت الحكومة الإيطالية تنفيذها بالتعاون مع الوكالة الإيطالية للتعاون الإنمائي في نهاية العام 2023 اسم “ترويج 2023″، وهي تشمل إنشاء بنى تحتية في أفريقيا، وبناء العديد من مراكز التكوين والتدريب والتعليم المهني.
وبحسب تصريحات سابقة لمديرة مكتب التعاون بالوكالة الإيطالية للتعاون الإنمائي، جراتسيا سجارا، فإن هذه المرحلة تُعتبر أول علامة ملموسة على تنفيذ خطة “ماتي” وستكون القارة الأفريقية في مركزها، حيث سيتم تخصيص 85 في المئة من الموارد للبلدان والمبادرات المتصلة بالبرامج التي تنفذها مكاتب الوكالة الإيطالية للتعاون الإنمائي في عدد من الدول، منها تونس وإثيوبيا والمغرب وموزمبيق، وقريبا في السنغال.
لكن اللافت أنه قبل الإعلان عن هذه المشاريع، عقد المجلس الأعلى للدفاع الإيطالي اجتماعا في قصر كويرينالي برئاسة الرئيس الإيطالي سيرجيو ماتاريلا خُصص لمعالجة التغيرات السريعة في التوازنات الدولية وما سيترتب عليها من تطور في العلاقات السياسية والإستراتيجية بين الدول والمنظمات الدولية.
وجرى خلال هذا الاجتماع التأكيد على أن منطقة البحر الأبيض المتوسط الموسعة تكتسي أهمية إستراتيجية في هذه المرحلة، وأن البحر المتوسط بات يتسم بتدفقات الهجرة الناشئة بشكل رئيسي من السواحل الليبية والتونسية وهو المنطلق الرئيسي للنقل البحري للمهاجرين غير الشرعيين إلى إيطاليا.
وشدد في هذا السياق على أهمية أن تقود إيطاليا مبادرة قوية “لجذب انتباه الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو) بشأن أفريقيا، استعدادا لمختلف السيناريوهات، وذلك على أساس إستراتيجية الأمن القومي التي أعدتها الحكومة ووافق عليها البرلمان.
ويتضح من خلال هذه المعطيات، أن إيطاليا تُدرك جيدا جملة التحديات المحيطة بها، وهي بذلك تسعى إلى محاولة تفكيكها من خلال آليات تنفيذية بدت كأنها في سباق مع الزمن، خشية من أن تتجاوزها التطورات في أكثر من موقع، بعد أن بدأ النفوذ الفرنسي في أفريقيا يتآكل بشكل لافت.
وعمدت في هذا الصدد، إلى إدخال سلسلة من التعديلات في مقاربتها السياسية والاقتصادية والأمنية، وكذلك أيضا العسكرية تجاه أفريقيا سعت خلالها إلى الانتقال من الإرث الاستعماري الضاغط بجوانبه المختلفة على العلاقات التي تحكم دول الجنوب مع أوروبا، إلى مربع الشراكة.
والواضح من خلال ما سبق، أن إيطاليا كغيرها من القوى الأخرى التي تولي اهتماما متزايدا بأفريقيا مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا، تُخطط لتعزيز نفوذها في القارة الأفريقية التي تستحوذ لوحدها على نحو 2 في المئة من إنتاج المعادن عالميا (الألماس والذهب خاصة)، كما يبلغ إنتاجها من الطاقة حوالي 2.4 تريليون دولار (يورانيوم ونفط وغاز وهيدروجين أخضر).
وبهذه البيانات والتقاطعات المحيطة بها التي تتباين فيها الأهداف العلنية والسرية، تُحاول إيطاليا بهذه المقاربة الجديدة تجاه أفريقيا التأسيس لمشهد جديد تزدحم فيه الخيارات المفتوحة على كل الاحتمالات، وربما السياقات الإضافية التي قد تفرضها الإرهاصات الناتجة عن الانقسامات الحادة التي يشهدها العالم.
وفي المقابل، لا يبدو أن قادة الدول الأفريقية قد أدركوا أن هذه التحولات الناشئة في موقف إيطاليا تجاه قارتهم بما ستدعمه بخطوات لاحقة ومثيرة من كافة جوانبها المختلفة لجهة التأثير المباشر على قواعد العلاقات الدولية، سيكون لها كبير الأثر على مجمل الحسابات والاعتبارات التي تتطلبها التوازنات السياسية والاقتصادية في دولهم.
فما قدمته القمة المذكورة من خيارات، يبدو في ظاهره يأخذ بالاعتبار مقتضيات الحاجة الدولية لمناخ يُقدم لغة الشراكة وتبادل المصالح على لغة الاستلاب والسطوة والهيمنة، لكنه أيضا يطرح تساؤلات تستدعي ضرورة التعمق فيها لعدة اعتبارات سياسية وأخرى أمنية وعسكرية.
لذلك، تضع قمة إيطاليا – أفريقيا قادة أفريقيا أمام اختبار قد يكون الأصعب، لأن فرص التهرب من مسؤولية تردي الأوضاع في بلدانهم بدأت تتضاءل. كما أن بساط الذرائع والمبررات تمزقت جوانبه، بحيث لن يكون بمقدورهم الاستنجاد مرة أخرى بالمثل القائل “الحق على الطليان”.